حول مناهج كتابة السيرة النبوية
معتز الخطيب
إن السيرة النبوية هي تجسيد وتمثيل تلك المبادئ النظرية " المتعالية "
التي حواها القرآن ، وهي برهان عملي على إمكانية تطبيق الإسلام دينًا ودولة
، فبعد أن تنـزّل الدستور الإلهي النظري ، وتم تجسيده تجسيدًا نموذجيًا
ممثلاً بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سبحانه : ( اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا ) .
تحاول هذه الورقة تقديم نماذج " مجملة " عن بعض مناهج السيرة النبوية "
المختلفة " فتستهل بتحديد مصطلحات البحث ، ثم تشير إلى عملية التدوين ،
ومنهج التدوين في الصدر الأول ، ثم تعرض لبعض أقوال المحدثين النقدية في
بعض كتب السيرة الأولى ، ثم تبحث منهج " السيرة الصحيحة " ، ثم مناهج
المستشرقين ، وتختم بإجمال منهج المدرسة الإصلاحية .
وسلكت في هذا البحث طريقة " الإجمال " ، ومع ذلك لم نُخْلِ المقام من
إيراد الاستشهادات ، واتبعت "المنهج الوصفي التحليلي " في عرض القضايا .
ولأنني لم ألتزم استيعاب كل المناهج ، كما أنني لم أفصل فيها جعلت عنوان
الورقة " حول مناهج كتابة السيرة النبوية " ، لكن حسبنا أننا عرضنا - فيما
نرى - تصوراً " واضحاً " و" مجملاً " لأهم المناهج . واللهَ نسأل أن ينفعنا
وغيرنا ويأجرنا .
1- تحديدات :
قبل الكلام على المناهج لا بد من تحديد المصطلحات التي تستعمل في هذا
البحث والتي قد تبدو مترادفة حيناً ومختلفة حيناً آخر وهي : السنة - السيرة
- الحديث .
فالحديث في اصطلاح المحدثين : هو ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم
من قول أو فعل أو تقرير أوصفة . لكن الأصوليين يستثنون من التعريف كلمة "
صفة " لأنهم يبحثون في الأمور التشريعية العملية ، والملحوظ أنهم غالباً ما
يستعملون لفظ " السنة " بدل " الحديث " أما المحدثون فإنما يستعملون لفظ "
الحديث " ، أكثر من " السنة " ، وإن أطلقوا السنة فهي - عندهم - تشمل
الطريقة العملية ومن ثَمَّ سميت "السنن " الأربعة ( سنن أبي داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه ) وغيرها لاعتنائها بالأحكام العملية ، والأكثر في
اصطلاح المحدثين أن السنة والحديث مترادفان وهما يشملان أقوال النبي
والصحابة والتابعين وهو ما اصطُلِح عليه بالحديث "المرفوع" و"الموقوف"
و"المقطوع". ومن ثم قيل : " سنة الشيخين " وإن كان الأليق أن يُلحظ المعنى
اللغوي لـ " السنة " وهو الطريقة ، فيقال لكل ما يتعلق بالتطبيق العملي (
الفعل ) : " سنة " ولكل ما يتعلق بالأقوال : " حديث " .
أما السيرة : فهي - في تطبيق المحدثين - جزء من الحديث حيث إن كتب
الحديث أفردت باباً لها ضمن الأبواب دُعي باسم " المغازي والسِّيَر " إلى
جانب أبواب الطهارة والصلاة والتفسير وغيرها .
والجدير بالملاحظة أن كثيراً من كتب السيرة الأولى سميت بـ " المغازي "
كمغازي أبان بن عثمان (101 هـ ) ومغازي عامر بن شَرَاحيل الشعبي ( 103 هـ )
ومغازي موسى بن عُقْبة ( 140 هـ ) وتذكر كتب التراجم أن ابن إسحاق كان
إماماً في "المغازي" وهذا التعبير هو الشائع على لسان العلماء في ذلك العصر
كالشافعي [ انظر مثلاً الخطيب ، الجامع لأخلاق الراوي تحقيق د. محمود
الطحان ، الرياض ، المعارف 1403 هـ ، جـ 2 ص 164 ] وإن كان المعنى اللغوي
للسيرة والسنة واحدًا فكلاهما بمعنى " الطريقة " .
وثمة اصطلاحات أخرى لـ " السنة " في حقل علم العقيدة وعلم الفقه لا تعنينا هنا .
و " السيرة " في تطبيق مؤرخي السيرة هي حياة النبي صلى الله عليه وسلم
بكل ملامحها وتفصيلاتها فهي أقرب إلى التأريخ التفصيلي للإسلام ممثلاً
بشخصية النبي وخلفائه الراشدين وصحابته الكرام والأحداث التاريخية التي
دارت بين الإسلام ومناهضيه . بل إن سيرة ابن إسحاق تدخل في أوسع من هذا حيث
ضمَّ إلى السيرة غيرها من الأخبار والقصص وغيرها من أخبار أهل الكتاب [
كما قال الخطيب ، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ، ( م . س ) جـ 2 ص
163 ] حتى جاء ابن هشام فهذبها في "السيرة النبوية" . ومن هنا اعتبر
القِنَّوْجي - ( 1307 هـ ) [ في أبجد العلوم ، تح عبد الجبار زكار ، بيروت ،
الكتب العلمية 1978 ، جـ 2 ، ص 514 ] . السيرة من فروع علم التواريخ لكن
لما كان ثبوتها بالأحاديث والآثار ذكرها في فروع علم الحديث .
بقي أن نشير إلى أن " الخبر " هو مادة السيرة والسنة والتاريخ .
2- تدوين السنة والسيرة :
إن الخلاف مشهور حول موضوع تدوين السنة بين الحظر والإباحة ، لكن
الحقيقة الثابتة تاريخياً وفق معايير النقد الحديثية أن الحديث دُوِّن في
زمنه صلى الله عليه وسلم على شكل صحف وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب -
كَتَبَ الصحيفة الصادقة - وهو ما شهد به أبو هريرة [ رواه البخاري ، العلم
، كتابة العلم ، رقم : 11 ] وثمة عدد من الصحف غيرها لعدد من الصحابة فمن
بعدهم لكن هذه الصحف لم تَعْدُ كونها مدونات جزئية قاصرة عن مرحلة التدوين
بمعنى " التصنيف " .
لكن السيرة النبوية - وخاصة المغازي - دوِّنت مبكراً جداً في مرحلة
سابقة على الحديث الذي كان على شكل صحف مفردة ، ذلك أن الصحابه اهتموا
كثيراً بمغازي رسول الله حتى كانوا يعلِّمونها أبناءهم كما يعلَمونهم
السورة من القرآن ومن ثم وجدنا أول من دَّون في السيرة ( المغازي ) - حسب
المصادر - عروة بن الزبير بن العوام ( 94 هـ ) وأَبَان بن عثمان بن عفان (
101 أو 105 هـ ) ويُروى أن كتابه كبير وأنه يبرز فضائل الأنصار . [ حسب ما
نقل د. العمري ، في السيرة الصحيحة ، المدينة ، مكتبة العلوم والحكم ، ط 4 ،
1993 ، جـ 1 ص 54 ] وعامر بن شَرَاحيل الشَّعْبي ( 103 هـ ) وله كتاب
المغازي ، وعاصم بن عمر بن قَتَادة ( 119هـ ) ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري
( 124 هـ ) وشُرَحْبيل بن سعد المدني ( 123 هـ ) ويزيد بن هارون الأسدي
المدني ( 103 هـ ) وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ( 135 هـ ) وموسى
بن عقبة ( 140 هـ ) وهو أصحها على صغره - كما يقول الشافعي - [ الخطيب ،
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ، ( م . س ) ج 2 ص 164 ] وغيرهم حتى جاء
ابن إسحاق ( 151 هـ )
والذي يبدو لنا أن كثيراً من المصنفات قبل ابن إسحاق كانت في الغالب تقتصر
على ذكر المغازي وبعض ما يتصل بها حتى جاء ابن إسحاق فوضع كتابه على ثلاثة
أقسام " المبتدأ " وتناول فيه تاريخ الأنبياء إلى نبينا و " المبعث "
وخصصه لحياة الرسول و " المغازي " تعرض فيه لنشأة الدولة الإسلامية في
المدينة وتَحَوّل الدعوة من الدفاع إلى " الهجوم " [ انظر الذهبي ، سير
أعلام النبلاء ، تح ، شعيب الأرناؤوط وغيره ، بيروت ، الرسالة ، ط 9 ، 1413
هـ جـ 7 ، ص 48 وابن النديم ، الفهرست ، بيروت ، المعرفة 1978م ص 136 ] . .
حتى جاء ابن هشام ( 218 هـ ) واختصره ومن ثَمَّ لقي من العناية ما لقي
واعتُبر عمدة المغازي والسير لاشتماله على أحداث السيرة عامة .
3- منهج تدوين السيرة في الصدر الأول :
يغلب على جميع المؤرخين حتى ابن خلدون (808هـ) منهج جَمْع الأخبار وسرد
الأسانيد دون أي تحليل، وفيما يخص الترتيب فقد اعتمد وهْب بن مُنَبِّه
(110هـ) وابن إسحاق(151هـ) على التأريخ من بدء الخليقة وكان ذلك أول محاولة
- فيما نعلم - للتأريخ الشامل ثم تبعهما في التأريخ العام للعالم الدينوري
(282هـ) واليعقوبي (284هـ) ثم الطبري (310هـ) الذي يُعَدُّ أبرز كتَّاب
التاريخ وأهمهم وقد اعتمد بشكل رئيس على الإسناد لكونه محدثاً. واعتمد معمر
بن راشد (153هـ) في مغازيه على ترتيب الأخبار على أساس موضوعي على نحو ما
فعل في (الجامع) الذي يعد من أوائل المجموعات الحديثية المدونة في السنة [
انظر : الكتاني، الرسالة المستطرفة، تح محمد المنتصر الكتاني ، بيروت ،
البشائر الإسلامية، ط4 ، 1986، ص41، 42 ] .
ولكن كتب السيرة والتاريخ لم تخضع لمنهج النقد الذي كان معزولاً عن
الرواية التاريخية ومستثمرًا بشكل ضخم في الرواية الحديثية فيما عدا الكتب
التي أفردت بابًا خاصًا للمغازي والسير من الكتب الستة كالبخاري ، وهذا
يعود لسببين : الأول : موقع كل من الروايتين وأهميتها فالرواية الحديثية
تتعلق بالحلال والحرام ولذلك تساهل فيها المحدثون أنفسهم [ انظر الخطيب ،
الكفاية ، تح . أبي عبدالله السورقي ، إبراهيم المدني ، المدينة ، المكتبة
العلمية ، د.ت ص 134 ] ، ومن ثم وجدناهم تكلموا في ابن إسحاق ونزلوا
بروايته الحديثية عمن يحتج به [ المراد المصطلح الحديثي (حجة) وهو خلاف
"ثقة" فابن إسحاق ثقة حسن الحديث ولكن ليس حجة ] بينما اعتبروه إمام أهل
المغازي ، وقد يكون تساهله في قبول الأخبار سبب المنافرة بينه وبين الإمام
مالك الذي كان يشترط الصحيح ويشدد فيه [ انظر تفاصيل تلك المنافرة في ترجمة
ابن اسحاق من الذهبي ، السير ، ( م . س ) ج 7 ، ص 51] وحتى أحمد بن حنبل،
قال فيه : (لم يكن يحتج به في المسند)[ الذهبي ، السير ، ( م . س ) ج 7، ص
46 ] وكذلك الحال في الواقدي الذي كذبه بعضهم واحتج به آخرون في المغازي.
والأمر الثاني : الفرق الجوهري بين المحدث والمؤرخ الذي دعي باسم
((الأخباري)) عند المحدثين [ انظر الإشارة إلى ذلك في ابن حجر ، نزهة
النظر، تح . د. نور الدين عتر ، دمشق ، دار الخير ، " المقدمة " ]
فالمؤرخ إنما يعتني بتوثيق الحدث وإيراد كل ما عنده من أخبار في ذلك
بينما يتوجه المحدث إلى تحري الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتمييز
المقبول من المردود لأنه يتكلم في الحلال والحرام .
وعلى كلٍّ فقد كان العلماء في الصدر الأول (القرون الثلاثة الأولى)
يعتمدون على قاعدة مفادها : (( من أسند إليك فقد حَمّلك )) ومن ثم كانوا
يوردون الأخبار بأسانيدها، والعهدة على الإسناد لكون ذلك شائعًا في تلك
المرحلة التاريخية.
ولم يتم توظيف منهج النقد في سياق الأخبار التاريخية إلا في محاولات
جزئية في الحوادث الخاصة بالسيرة كالمغازي وغيرها مما يتصل اتصالاً وثيقًا
بالحلال والحرام أو بشخص النبي صلى الله عليه وسلم كما وجدنا في بعض الكتب
الستة ، وبدا ذلك أيضا عند المتأخرين كابن كثير (774هـ) في البداية
والنهاية الذي تعرض فيه لنظرات نقدية مبثوثة في كتابه ولكنها تبقى جزئية .
4- نقد المحدثين لكتب المغازي والسير :
سبق أن أشرت إلى أن للمحدثين نظرات نقدية في كتب المغازي نعرض لبعضها هنا كم خلال كتب ابن إسحاق والواقدي وموسى بن عقبة .
1- ابن إسحاق :
قال الخطيب البغدادي : (( أما المغازي فمن المشتهرين بتصنيفها وصرف العناية
إليها محمد بن إسحاق المطلبي ومحمد بن عمر الواقدي، فأما ابن اسحاق فقد
تقدمت منا الحكاية عنه أنه كان يأخذ عن أهل الكتاب أخبارهم ويضمّنها كتبه
وروي عنه أيضًا أنه كان يدفع إلى شعراء وقته أخبار المغازي ويسألهم أن
يقولوا فيها الأشعار ليلحقها بها ... )) [ الخطيب، الجامع، ( م . س )
2/163] .
وقال ابن عدي : ( قد فتشت أحاديثه [ يعني ابن إسحاق ] فلم أجد في
أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف وربما أخطأ أو يهم كما يخطئ غيره ،
ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به )
قال الذهبي : ( لا ريب أن ابن إسحاق كثَّر وطَوَّل بأنساب مستوفاة،
اختصارها أملح، وبأشعار غير طائلة ، حذفها أرجح، وبآثار لم تصحح، مع أنه
فاته شيء كثير من الصحيح لم يكن عنده ، فكتابه محتاج إلى تنقيح وتصحيح،
ورواية ما فاته)[ الذهبي ، السير، ( م . س ) ج6 ، ص 115 - 116 ] .
2- الواقدي :
قال الخطيب : (( وأما الواقدي فسوء ثناء المحدثين عليه مستفيض ، وكلام
أئمتهم فيه طويل عريض .. قال الشافعي : (كتب الواقدي كذب ...)، فما روي من
هذه الأشياء عمن اشتهر تصنيفه وعرف بجمعه وتأليفه : هذا حكمه فكيف بما
يورده القصاص في مجالسهم ويستميلون به قلوب العوام من زخارفهم ؟! إن النقل
لمثل تلك العجائب من المنكرات ، وذهاب الوقت في الشغل بأمثالها من أخسر
التجارات)[ الخطيب، الجامع، ( م . س ) 2/163] .
وقال أبو داود : ( ليس ننظر للواقدي في كتاب إلا تبين لنا أمره، وروى
في فتح اليمن وخبر العنسي أحاديث عن الزهري ليست من حديث الزهري) [
الخطيب،تاريخ بغداد ، بيروت ، الكتب العلمية ، د. ت ج3 ، ص 15 ].
وقال ابن حبان : ( كان [ يعني الواقدي] يروي عن الثقات المقلوبات، وعن
الأثبات المعضلات حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك) [ ابن حبان
، المجروحين ، تح . محمود زايد ، حلب ، دار الوعي ، ج2 ، ص 290 ] .
وقال ابن عدي : ( متون أخبار الواقدي غير محفوظة هو بَيِّن الضعف
والبلاء منه) [ ابن عدي، الكامل ، تح . يحيى غزاوي ، بيروت ، دار الفكر ،
ط3 ، 1988 ، ج6 ، ص242].
3- موسى بن عقبة
قال الشافعي : (( ... وليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره ))
وقال الذهبي : ( وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير سمعناها
وغالبها صحيح ومرسل جيد ، لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيان وتتمة)[
الذهبي ، السير ، ( م . س ) 6/115-116] .
5 - السيرة الصحيحة :
ومع تطور علم التاريخ واتساعه ونشوء منهج النقد التاريخي ونموه في الغرب
حاول بعض المعاصرين توظيف منهج النقد في السيرة فنشأ ما سمي (السيرة
الصحيحة) [قام بها د.أكرم ضياء الدين العمري وذكر هو في مقدمة (( السيرة
الصحيحة )) ( م . س ) 1/23 ستة عشر رسالة جامعية وظِّف فيها منهج المحدثين
في نقد روايات السيرة ، وربما يتصل بهذا الموضوع محاولة د.أبو شهبة في
(السيرة النبوية من القرآن والسنة) وإن كنا لا نراها دقيقة وكذلك تحليل
محمد عزت دروزة للآيات القرآنية المتعلقة بالسيرة في كتابه ( سيرة الرسول )
].
لكن تطبيق منهج المحدثين بقواعده الصارمة سيفقدنا كثيرًا من الأخبار
التاريخية، لأنها تفتقد لتلك المعايير السليمة التي توفرت في الحديث النبوي
الشريف ، الأمر الذي سَيُحْدث فجوات تاريخية يحتاج إليها المؤرخ ، وقد
يكون هذا ما دفع المحدثين إلى عدم القيام بهذه المهمة بشكل مفصل وشامل ،
واكتفوا بإبداء نظرات نقدية في كتب السيرة عامة وعلى وجه الإجمال ، بل إنهم
تساهلوا في المؤرخين كما أشرنا إلى ذلك قبل ومع أنهم ضعفوا الواقدي
واتهموه بالكذب قالوا: (( لا يُستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة
وأخبارهم )) [ انظر ترجمته في : الذهبي ، السير ، ( م . س ) ج9 ص 454-469]
وذلك لما ذكرنا وكان من أوسع من جمع المغازي والسير. وتساهلهم في قبول
الرواية التاريخية يكاد يماثل تساهلهم في قبول رواية الأخلاق والفضائل حتى
قال أحمد بن حنبل: ( إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال
والحرام والسنن والأحكام شددنا في الأسانيد وإذا روينا عن النبي صلى الله
عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في
الأسانيد ) [ الخطيب ، الكفاية ، ( م ، س ) ص 134 ] .
ومن توجه إلى جمع " السيرة الصحيحة " من المعاصرين لم يستطع أن
يلتزم بـ " الصحيح" و " الحسن" بالاصطلاح الحديثي ؛ لأن الأخبار الموجودة
بهذه "الدرجة " لا تغطي جوانب السيرة الكاملة كما هي في سيرة ابن هشام
وغيره ومن ثم كان لا غناء لكتّاب السيرة عن كتب المغازي والتي فيها أخبار
قد تخلو من الأسانيد أصلاً .
أما الآيات القرآنية المتعلقة بالسيرة النبوية فهي لا تتعدى بضع عشرات
من الآيات وهي في مجملها تتحدث عن المغازي ( كبدر ، وأحد ، وحنين ، والعسرة
... ) ونحو ذلك من البيعة ونشأة الرسول وغير ذلك ، وهي مع ذلك تمتاز
بالإيجاز الشديد ، ويعود ذلك إلى الفارق بين الصياغة الأدبية التي امتاز
بها القرآن والصياغة التاريخية ، بالإضافة إلى أن القرآن يكتفي بالقدر الذي
يحقق العبرة والعظة . [ من هنا نجد أن سيرة د. محمد أبي شهبة التي عنونها
بـ " السيرة النبوية من القرآن والسنة " ليست دقيقة لأنها لم تختلف كثيرًا
عن كتب السير المعروفة وإن كان اعتنى بنكر الآيات ، ولو طبق ما التزمه في
العنوان لكتانت سيرته أصغر مما هي عليه الآن ] .
6- مناهج المستشرقين في كتابة السيرة :
إن الكلام على مناهج المستشرقين يقتضي تتبع كتاباتهم وتحليلها والتدليل
على ذلك بالنقولات عنهم وهو ما يحتاج إلى مطولات ، لكن حسبنا أن نسجل هنا
بعض الملحوظات المنهجية على دراسات المستشرقين ثم نحاول أن نشير إلى أصول
مناهجهم على وجه الإجمال [ سنستعين ببعض أقوال المستشرقين مما نقله د. ساسي
في كتابه " الظاهرة الاستشراقية " المشار إليه لاحقًا وذلك للتدليل على ما
نذهب إليه ]
1- إن المستشرقين الذين يكتبون عن الإسلام ونبيه لا يمثلون اتجاهًا
واحدًا وإن كان ثمة تقاطعات بينهم لأنهم أبناء ثقافة واحدة تختلف جذريًا عن
حضارة الإسلام وثقافته ، ولذلك من العسير على المستشرق أن يدرك أثر الفكرة
الدينية وحركتها في التاريخ وتأثيرها على النفس البشرية كإدراك المسلم "
المؤمن " فالمؤرخ غير المسلم يتعامل بتجرد شديد ( بمنهج مادي صارم ) مع
الحدث التاريخي ، لكنه يغفل دوافع النفس وكوامنها في خلق الحدث وتوجيهه ،
لأنه يتعامل مع حدث غريب عنه ، ومن ثم فهو لا يتفاعل معه ، ولا تخلو تلك
الدراسات من حضور طاغٍ لنموذج يقاس عليه هو النموذج الغربي (
المهيمن ) في ظل العلاقة العدائية بين الإسلام والغرب . من هنا ليس غريبًا
أن يعزو توينبي الفتوحات الإسلامية إلى قحط الصحراء وجوع العرب .
[ انظر : توينبي ، دراسة في التاريخ ، ج 3 ص453 عن وات ، محمد في مكة ،
ترجمة شعبان بركات ، بيروت ، منشورات المكتبة العصرية ، د. ت ، ص 20]
2- إن " الموضوعية " من الصعب تحققها في تلك الدراسات لما تتسم به
العلاقة بين الإسلام والغرب من مؤثرات ذات عمق تاريخي ( الحروب الصليبية -
الاستعمار ) ولا شك أن التزام الموضوعية والحياد سيؤدي إلى الإقرار بحقائق
الإسلام الثابتة الأمر الذي يبرر إسلام عدد من المستشرقين.
3- إن الدوافع - لا شك - تحكم المناهج ، ومن المسلّم به أن الاستشراق
ارتبط - منذ نشأته - بالدوافع الاستعمارية في محاولة استكشاف الشرق
واحتوائه .
4- إن البحث في الإسلام يختلف كثيراً عن أي بحث آخر لأن الباحث غير
المسلم سيصطدم ابتداءً بقضية " الوحي " و " المعجزات " وغير ذلك فهو إن كان
ممن ينتمون إلى الاتجاه الديني " اليهودي أو المسيحي " فهو متهم ابتداءً
بالتحيّز لموقف اليهود والنصارى من الإسلام الرافض الاعتراف به كموير ،
ووات ، وفلهاوزن ، وبروكلمان ، وميشيل بودييه الذين أكدوا على صلة الإسلام
بالنصرانية واليهودية وأنه استلهم تعاليمه منهما ، وقد اعتبر بودييه الكتاب
المقدس المعيار للحكم على القرآن وبيَّن المواضع التي " أفسد فيها النبي
الزائف الديانة المسيحية " [ انظر آراءه في جوستاف بفانموللر ، فصول مترجمة
، من كتاباته ، باسم " سيرة الرسول في تصورات الغربيين ، ترجمة : د. محمود
حمدي زقزوق ، قطر ، مجلة مركز بحوث السنة والسيرة ، ع / 2 1997 م ص 115) ]
.
وإن كان من أصحاب المنهج المادي فهو سينكر ابتداء قضية الوحي أو سيحاول
تفسيرها تفسيرًا ماديًا كاعتبار " مشاريع الرسول المستقبلية " ثمرة الشقاء
الذي عاناه في حياته ( اليتم .. . ) أو سيحاول تفسير الظاهرة وفق أسس
التحليل النفسي لفرويد . يقول مونتغمري وات : " أرى من وجهة نظري أن هناك
خيالاً خلاّقًا متدفقًا لدى محمد وأن معظم الأفكار الناجمة عن هذا الخيال
صحيحة وعادلة ولكن جميع الأفكار القرآنية ليست كذلك .. " . [ عن ساسي سالم
الحاج ، الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية ، ما لطة ،
مركز دراسات العالم الإسلامي ، ط 1، 1992 ، ج3 ، ص 121 ] .
5- إن قضية " الوحي " التي هي أساس الرسالة الإسلامية غير خاضعة لمقاييس العقل والمناهج المادية التي يستلهما الغربيون وغيرهم .
6- إن المستشرق الذي لايؤمن بقضية "نبوة محمد" سيسعى منذ البداية إلى
تأويل أو تفسير ظاهرة الوحي وما ينتج عنها ( القرآن ) بما يخضع للمقاييس
المادية التي يتبناها وهو ما حدث حيث تم تفسير تلك الظاهرة وفق أسس التحليل
النفسي لفرويد !
لقد حالت الأوهام والأباطيل زمنًا طويلاً دون درس مصادر الإسلام في
أوروبا دراسة علمية ، ثم جدّ في البحث العلمي بعض العلماء في القرن التاسع
عشر ومنهم كوسان دوبرسفال ، وموير ، وفيل ومرجليوث ، ونولدكه وسبرنجر ،
وسنوك هورغرونجه ودوزي ، ثم تناوله مؤخرًا كايتاني ، ولا منس ، وما سينيون ،
ومونته وكازنوفا وبيل وهوار ، وهوداس ، وأرنولد ، ومارسيه ، وغريم ، وغولد
سيهر ، وغود فروا دومونبين وغيرهم " . [ إميل درمنغم ، حياة محمد ، ترجمة
عادل زعيتر ، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، ط2 ، 1988، ص 10 ]
.
لقد افتتح جوستاف فايل عام 1843 حقبة جديدة في البحث في حياة محمد
فقد ظهر أول عرض تاريخي نقدي لحياة محمد صلى الله عليه وسلم من تأليفه .
[ جوستاف بفانموللر ( م . س ) ، ص131 ] . ويتلخص منهج فايل - كما يقول بفانموللر - في ما يأتي :
1- بحث ما قرره العرب حول مؤسس الإسلام بحثًا نقديًا وعزل الوقائع التاريخية الموثوق بها من الأساطير المتأخرة .
2- بحث طبيعة محمد بوصفه إنسانًا ونبيًا ومشرعًا دون الوقوع تحت أسر مذهبي.
3- وأخيرًا رتب القرآن - الذي يمثل مزيجًا مختلف الألوان من الأناشيد
والصلوات والعقائد والمواعظ والقوانين والتنظيمات - ترتيبًا زمنيًا .
ويجمل بفانموللر تقويم كتب السيرة من كتاب ميشيل بودييه الصادر سنة 1625
إلى كتاب جوستاف فايل سنة 1843 فيقول : " كانت كل الكتب عن حياة محمد حتى
ذلك الوقت لا تزال تستند باستمرار بدرجة - تقل أو تكثر - على كتاب جان
جانييه الذي ظهر قبل ذلك بقرن من الزمان .ولكن جانييه لم يضع لنفسه مهمة
وصف محمد كما كان ، بل كان يكتفي بترجمة المصادر العربية ويضعها ببساطة
بجوار بعضها دون أي نقد ولم يخطر ببال أحد ممن جاؤوا بعده أن يقارنوا
الترجمة التي قدّمها بالنصوص الأصلية ، ولم يُخضعوا مضمونها لنقد تاريخي
فقد أخذ كل منهم ما استطاع أن يستخدمه في كتاباته ، وإذا حدث أن استخدمت
بعد ذلك مصادر أخرى لسيرة محمد غير تلك التي كانت متوفرة لجانييه فإن ذلك
كان يحدث بسطحية وغفلة لا يلتقيان بالتاريخ " . [ بفانموللر ، فصول مترجمة
من كتاباته ، ( م . س ) ص 131 ] .
إن كثيرًا من دراسات المستشرقين لم يسلم من المؤاخذات وهذا نتيجة
طبيعية لما قدّمناه قبل من ملحوظات منهجية حول دراساتهم ، لكن كثيرًا منها
أيضًا لم يلتزم المنهج العلمي فقد غالى بعضهم فارتاب في وجود النبي صلى
الله عليه وسلم وعدوه شخصية أسطورية ومن هؤلاء المستشرق الروسي تولستوف
الذي أكد أن الإسلام نشأ من أسطورة مستمدة من اعتقادات سابقة تسمى "
الحنيفية " . [ انظر ، ساسي سالم الحاج ، الظاهرة الاستشراقية ج3 ، ص 59 ] .
ألحّ المستشرقون كثيرًا على دراسة البيئة التي نشأ فيها الإسلام وذلك
للبرهنة على أن الإسلام ونبيه تأثرا بهذه البيئة وكانا نتاجًا طبيعيًا (
بشريًا ) يلبي احتياجاتها . بل إن الأب هنري لامانس خصص دراساته " مهد
الإسلام " و " مكة عشية الهجرة " و " مدينة الطائف عشية الهجرة " وغيرها
لإثبات ذلك. [ ينظر ساسي ، الظاهرة ، ( م . س ) 3 ص 28 ] .
وقد حاول ماكسيم رودنسون تفسير البعثة المحمدية تفسيرًا مادياً من خلال
تركيزه على الموقع الجغرافي لمكة وتجارتها وغير ذلك ليثبت أن الدعوة قامت
لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى [ انظر كلامه في : ساسي الظاهرة ، (م. س) ،
ج 3 ، ص 64- 65 ] .
ثم جاء هيوبرت جريم في نهاية القرن التاسع عشر ففسّر الرسالة المحمدية
بأنها دعوة إلى نوع من الاشتراكية ومحاولة للإصلاح الاجتماعي تهدف إلى
تغيير الأوضاع الفاسدة وعلى الأخص إزالة الفروق الصارخة من خلال فرض "
ضريبة " على الأغنياء ( الزكاة ) وتخويفهم من عذاب الآخرة كوسيلة للضغط
النفسي . [ انظر آراء هيوبرت في : ساسي ، الظاهرة ، ( م . س ) ج 3 ، ص 116 ]
.
وهذه الإسقاطات كثيرة في مناهج المستشرقين فهذا رودنسون ينطلق في تخيل
شخصية النبي صلى الله عليه وسلم معتمدًا على منهج التحليل النفسي عند
فرويد. [ انظر التحليل المشار إليه في : ساسي ، الظاهرة ، ( م . س ) ج 3 ،
ص73 ]
ويفسّر مونتغمري واط الوحي بأنه شعور داخلي صادق وسبب الفرق بين القرآن
والحديث أن الحديث صدر عن العقل الظاهر والقرآن صدر عن العقل الباطن [ انظر
كلامه : د. أكرم العمري ، موقف الاستشراق من السنة والسيرة ، بحث منشور في
مجلة مركز بحوث السنة والسيرة ع / 8 سنة 1995 ص 60 ، 61 ] .
ويعتمد كثير من المستشرقين منهج الشك الديكارتي في تعاملهم مع الخبر
التاريخي متجاهلين تمامًا معايير النقد الإسلامية ، ومن ثم كان بدهيًا أن
تقع مصادمات كثيرة بين دراسات المستشرقين ودراسات المسلمين ، فهذا رودنسون
يشك في محبة أبي طالب للنبي متسائلاً : " ألم تكن هذه القصص من قبيل تحريف
سير القدِّيسين ؟ ! " [ انظر كلامه في : ساسي ، الظاهرة ، ( م . س ) ج3 ص
68 ] وكذلك يشكك في قصة الحجر وغير ذلك . بل إن واط شك في ولادة النبي بعد
وفاة والده [ انظر : وات ، محمد في مكة ، ج1 ، ص 65 عن ساسي ، الظاهرة ، ج
3، ص 61 ] وبناء على ذلك شكك الكثيرون في حادثة " شق الصدر " والمعجزات
وغيرها . يقول درمنغم : " لقد ابتعدت عمدًا عما هو ظاهر الوضع وعن المعجزات
التي اختُرعت بعد وفاة النبي بقرنين وعما هو غير محتمل " [ درمنغم ، حياة
محمد ، ( م . س ) ص 12 ]
إن جُلَّ المستشرقين لا يرون الرسالة المحمدية إلا في سياقها البشري
التاريخي ومن ثم يقول واط : " يمكننا فهم القرآن باعتباره مجموعة أفكار
قابلة للدراسة في إطارها الاجتماعي والتاريخي " [ عن : ساسي ، ( م . س ) ج 3
، ص 124 ] وفي الوقت الذي ينكر عدد من المستشرقين أحداث ثابتة تاريخيًا
وفق المنهج الإسلامي ، ولا يمكن إنكارها البتة كاسم النبي صلى الله عليه
وسلم " محمد " يلجأ كثير من المستشرقين إلى " الانتقائية الظاهرة ، ومن ثم
وجدنا سبرنجر وهرشفلد ودرمنغم يرون أن اسم النبي الحقيقي هو " قُثَم" !! [
انظر درمنغم ، حياة محمد ، ( م . س ) ص 12 - 13 ] معتمدين في ذلك على رواية
" ساقطة " ذكرها صاحب السيرة الحلبية في باب " تسمية الرسول ومع أن تلك
الرواية تنص على أن جده عدل عن تسمية " قثم " بعد ولادته مباشرة إلى " محمد
" يتجاهل المستشرقون هذا ويبنون على تلك الرواية أغرب النتائج . يقول
درمنغم : " إن الاسم الأصلي للنبي هو قُثَم فلم يلبث هذا الاسم أن عُدِل
عنه بعد ولادته بوقت قصير ، أو حين بعثته ، إلى محمد الذي هو لقب نبوي أكثر
من أن يكون اسمًا " [ درمنغم ، حياة محمد ، ( م. س ) ص 12 ] .
وفي هذا - كما هو ظاهر - تجاهل شديد لأساسيات منهج النقد التاريخي
والحديثي معًا حيث تم تجاهل الثابت يقينًا على مدى قرون في سبيل إثبات خبر
غريب رفضه كل علماء المسلمين أنفسهم !
وفي حين يتفق جميع المؤرخين المسلمين على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يمارس أي لون من ألوان العبادة السائدة في قومه يذهب رودنسون مستندًا إلى "
رواية ناردة " - - على حد تعبيره - إلى أنه أهدى لحمًا كان قد تقرب به
لبعض الأصنام .. [ انظر كلام رودنسون في : ساسي ، الظاهرة ، ( م . س ) ج3، ص
93 ] .
إن كل الدراسات الاستشراقية ( باستثناء عدد قليل ممن أقرّ بالنبوة )
تتعامل مع شخص " النبي " باعتباره " إنسانًا " وحسب ، ومن ثم تمت دراسته
بمناهج مفعمة " بالوضعية " فتعاليمه هي " مشاريع " أنتجتها البيئة وكانت "
آلام " محمد " الإنسان" هي الحافز لذلك " الخيال " الخلاَّق الذي أبدع تلك "
الشاريع " ، ما " المعجزات " إلا نتاج ذلك الخيال " الصادق " - وفق بعضهم -
أو " الكاذب" عند آخرين ، ومن ثم وجدنا غير واحد يعتمد منهج التحليل
النفسي الذي وضع أسسه فرويد لتحليل شخصية " محمد " مبدع تلك المشاريع .
ونحن هنا - بالطبع - نستبعد تلك الأطروحات الاستشراقية الغارقة في حُمَّى
"المذهبية " والتي لم تتورع عن وصف النبي بأسوأ الأوصاف وفي هذا يقول
مونتغمري واط : "إنه ليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حُطَّ من قدرها في
الغرب كمحمد، فالكتّاب الغربيون أظهروا ميلهم لتصديق أسوأ الأمور عنه " [
نقله : ساسي ، الظاهرة ، ج3 ، ص 120 ]
ويحسن بي أن أختم الكلام على منهج المستشرقين بتقييم نقدي إجمالي
لدراسات المستشرقين يطرحه درمنغم إذ يقول : " ومن المؤسف حقًا أن غالى بعض
هؤلاء المتخصصين في النقد أحيانًا فلم تُزل كتبهم رسمًا ، وكانت عامل هدم
على الخصوص … ومن المحزن ألا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون
سلبية ناقصة ولن تقوم سيرة على النفي ... ومن دواعي الأسف أن كان الأب لا
منس الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين ، ومن أشدهم تعصبًا وأن شوّه
كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبي الإسلام فعند هذا العالم
اليسوعي - الذي أفرط في النقد فوجّه آخرون مثله إلى النصرانية - أن الحديث
إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ
إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة بدلاً من أن يؤيد أحدهما
الآخر ؟! )) [ درمنغم ، حياة محمد ، ( م . س ) ص 10 - 11 ]
إن تلك الدراسات الاستشراقية الكثيرة التي عملت على احتواء الشرق
الإسلامي ساهمت كثيرًا في تكوين الوعي الغربي وفق الصورة التي رسمتها عن
الشرق ، وكان لها كبير الأثر في تعويق الغربي وتحصينه ضد الإسلام الذي كان -
ولا يزال - يوصف بـ " دين الأتراك " أو "العقيدة التركية " ويوصف النبي بـ
" نبي الأتراك " [ تلك هي عبارات كل من ميشيل بودييه ، وبفانموللر ،
وليسنج وغيرهم . انظر : بفانموللر ، الفصول المترجمة ، مجلة السنة والسيرة
ع/ 2 ص 114 ، 115 ، 117 ، 124 ] وذلك يحمل من الإيحاءات وبذور العداء الشيء
الكثير مما يساهم في إذكاء " الصراع" بين الإسلام والغرب . وإذا كانت تلك
الجهود والدراسات كتبت بلغة الغربي نفسه مما يعني أنها كانت موجهة إليه (
خاصة ) فإنها في بدايات هذا القرن تحولت إلى المسلم نفسه من خلال
المستشرقين الذين طوّفوا البلاد العربية وتبوؤا بعض مناصب التعليم في
الجامعات ، وأخيرًا من خلال المؤتمرات التي تعقدها الأمم المتحدة لتذويب
القيم الإسلامية من خلال قضايا " المرأة والأسرة " في محاولة لفرض "
النموذج الغربي " والأمريكي خصوصًا .
7- منهج المدرسة الإصلاحية في كتابة السيرة :
كان من نتائج احتكاك العرب بالغرب وأبحاث المستشرقين أن حدث جدل واسع
أثار الكثير من الإشكاليات في حقل العلوم الإسلامية ، ومنها قضايا "الوحي "
و" المعجزات " وغير ذلك . وكان أن برز الشيخ محمد عبده رحمه الله وحاول أن
ينهض بالتعليم الأزهري والعلوم الإسلامية على أسس "حديثة " متأثرًا
بالنهضة الغربية ، ومحمد عبده لم يكتب في السيرة لكنه تعرض في تفسيره وغيره
لقضية " الوحي " و " المعجزات " وهما من ركائز السيرة وأساس " النبوة " ،
وكان أن تأثر به عدد من علماء عصره ومن بعدهم مثل رشيد رضا وأحمد أمين
ومصطفى المراغي ومحمد حسين هيكل ومحمد فريد وجدي ومحمود شلتوت ، ومحمد
الخضري ، ومحمد الغزالي ، وغيرهم فنشأ ما سُمّي " المدرسة الإصلاحية " .
يُعرف الشيخ محمد عبده الوحي بأنه " عرفان يجده الشخص من نفسه ... " [ محمد
عمارة ، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ، بيروت ، المؤسسة العربية
للدراسات والنشر، ط2 ، 1979 ، ج3، ص415 ] في حين استقر تعريفه عند العلماء
على أنه " إعلام الله تعالى أحد خلقه ..." بمعنى أن محمد عبده يجعل المعرفة
ذاتية في حين يرى العلماء أن المعرفة خارجة عن ذات " النبي " . هنا نجد أن
محمد عبده يجري مراجعة " جذرية " للعلوم الإسلامية من خلال التأسيس
لمرجعية العقل وتحرير العلاقة بين العقل والوحي ، فإذا تعارض العقل مع
النقل قُدِّم العقل ويبقى في النقل طريقان :
الأول : التسليم بصحة النقل مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في علمه ( المتشابه ) .
الثاني : تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة . [ انظر محمد عمارة ، الأعمال الكاملة ، ( م . س ) ج3 ، ص282 ] .
لكننا نجد أن رواد المدرسة الإصلاحية نهجوا الطريق الثاني ( التأويل ) .
وهذا يتعارض مع منهج المدرسة الأثرية ( أصحاب الحديث ) الذين يقدمون النص
على العقل مطلقًا [ انظر : ابن تيمية ، درء تعارض العقل والنقل ، تح . عبد
اللطيف عبد الرحمن ، بيروت ، الكتب العلمية ، ط 1 ، 1997 ، ج1 ، ص 4] ومن
ثم فإن قضية " المعجزات " مما يتعارض فيه العقل مع النقل وفق رؤية "
المدرسة الإصلاحية " فكان الخلص من ذلك هو " التأويل " لدرء ذلك التعارض .
سنحاول تأصيل موقف الشيخ محمد عبده من المعجزات وفق فهمنا له ثم نعرض
لنموذج من تأويلاته [ انظر كلام محمد عبده في المعجزات في : محمد عمارة ،
الأعمال الكاملة ، ( م . س ) ج4 ، ص 183 ، ومقدمة كتابه : الإسلام
والنصرانية ] .
يقوم موقف محمد عبده على مقدمتين :
الأولى : السنن الكونية ثابتة لا تتغير ( ولن تجد لسنة الله تبديلاً )[
الأحزاب : 62 ] [ الفتح : 23] ( ولا تجد لسنة الله تحويلاً )[ الإسراء :
77 ] .
الثانية : البدهيات العقلية ثابتة لا تتخلف ( كاستحالة اجتماع النقيضين
) وبناء على ذلك يجب أن تكون "المعجزة " خارقة للعادة جائزة عقلاً فالشيخ
إن لم يجد للتأويل سبيلاً يؤمن بالمعجزة على ظاهرها ، لكن هذه المعجزات
انتهت بختم النبوة وأضحت السنن الكونية ثابتة لا تتغير لأي بشر ومن ثم فهو
لا يؤمن بالكرامات " الخارقة " ذلك أن الناس دخلوا في مرحلة الرشد .
ومن تأويلاته قوله : إن " الحجارة من سجّيل " في حادثة الفيل هي مرض "
الجدري والحصبة " مستندًا إلى قول عكرمة ويعقوب بن عتبة إن أول ما ظهر
الجدري في شبه الجزيرة ذلك العام . [ انظر : محمد عمارة ، الأعمال الكاملة ،
( م . س ) ج 3، ص 373]
لكن ذلك التأويل وإن كان له مستند تاريخي فإنه يخالف قانون اللغة وهو أن الحجر هو الحجر .
إن الـتأويل الذي أجراه محمد عبده في مواضع كثيرة لم يخل من " إسقاطات "
ظاهرة في محاولة لعقلنة المعجزات وإن كان بعضه محتملاً كتأويله جنة آدم
التي خرج منها بالبستان مستدلاً بالمعنى اللغوي للجنة وبالقرينة " اهبطوا "
والأصل فيها النـزول من مكان مرتفع وليس بالضرورة أن يكون من السماء ويشهد
لذلك قوله تعالى : ( اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم ) .
أما رشيد رضا وشيخ الأزهر الأسبق مصطفى المراغي فينتهجان منهج الشيخ
عبده ويؤكدان على أن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم هي القرآن وحده
ويستشهدون بآيات سورة الإسراء [ 90 -93 ] . [ انظر كتاب الوحي المحمدي
لرشيد رضا ، ومقدمة المراغي لكتاب حياة محمد لهيكل ] وهو ما ذهب إليه هيكل
نفسه .
ويذهب الشيخ الخضري إلى الرأي القائل : إن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط وليس بالجسد وهو رأي قديم .
أما هيكل في كتابه " حياة محمد " فهو يمثل بامتياز " المدرسة العقلية "
فهو منذ البداية يقول عن كتابه : " إنها دراسة علمية على الطريقة الغربية
الحديثة " يقصد وفق التفسير المادي الوضعي ومن ثم فهو " يسرف " في تأويلاته
فالحجارة في حادث الفيل الحصبة والجدري ، و قصة " شق الصدر " مختلَقَه
تبعًا لموير ودرمنغم وغيرهما والإسراء بالروح فقط إلى غير ذلك .
تأثر هيكل بالمستشرقين ووافقهم في بعض آرائهم أمثال موير ولامنس وسبق أن لا
منس على الخصوص يسوعي مفعم بالكره للإسلام ونبي الإسلام على حد قول درمنغم
!
إن هيكل يركز في كتابه هذا على الجانب الإنساني " البشري " من حياة "
النبي " صلى الله عليه وسلم ومن هنا أتت التسمية " حياة محمد " التي
استعارها من وليم موير في كتابه " حياة محمد " .
هذه أهم المناهج التي خضعت لها السيرة النبوية ، وإننا إذ نختم بحثنا
نؤكد على ضرورة إعادة كتابة السيرة " التطبيق العملي للإسلام " وفق مناهج
جديدة تجمع بين دقة المنهج العلمي وصحة الأخبار من جهة ، وبين عمق الإيمان
بنبوة صاحب السيرة صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى .
يجب أن ندرس السيرة النبوية من جميع جوانبها ( النبوية والبشرية ) ،
فندرس حياة محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه نبيًا ، وإمامًا ( قائد دولة ) ،
ومفتيًا ، وقاضيًا ، وإنساناً ( زوجًا ، وأبًا ، وجدًا ) كما ينبغي دراسة
تفاعلات هذه النواحي فيما بينها لدراسة أثر " الوحي " و " الفكرة الدينية"
في عملية بناء وتغيير المجتمعات .